الاثنين، 26 نوفمبر 2018

الأفعى... والنبيذ


جلس بجوار سريره متأملًا ضوء الصباح المتسلل من النافذة القريبة، وامتزاجه بالإضاءة الداخلية الخافتة...
يظهر له الآن اختياره الموفق لهذه الدرجة بالذات من الأحمر للستائر وأغطية الفراش، فقد صنع لوحةً كلاسيكية فريدة: كنبيذ منسكب على جسد الفتاة الخمري.
سأل نفسه: "ماذا عليه أن يفعل ثانيًا؟ أيدفنها أم يلقي بها في مكان ناءٍ؟"

هذه تجربته الأولى مع مراهقة...لكنّه انتقاها هزيلة البنية، بلهاء المُحيّا، كي يسهُل التخلص منها. رغم ذلك، أخذ يتساءل: "هل يخفي هيكلها الضعيف هذا... شيئًا من القوة؟ هل ستقاومه؟"
لم تلحظ أصابعه ليلة البارحة أي كتلة عضلية أثناء مسحها لجسم الفتاة.
"الاحتياط  واجب.."
هل يحتفظ بها؟ لا، هذه فكرة سيئة. إن أفاقت، فستصرخ بلا انقطاع، أو ستحاول الهرب. ثم... ماذا لو ماتت؟ هو لا يفقه شيئًا عن التحنيط!
"ولِمَ العناء؟!"

ارتدى معطفه وعويناته الطبية، ثم حملها إلى فناء المنزل: بيت جده الواقع على أطراف القرية –لحسن حظه- لا يمر بجانبه أحد قبل الظهيرة  في غالب الأحيان.
داهمه الوحل الذي يغمر كل شيء. ثم تذكر ما سمعه في نشرة أمس عن السيول.
تذكر الطفلتين السابقتين...
خبأهما تحت هذه الأرض...
أخذ يلوم نفسه... فالأطفال أقل وطأة.
قال بغضب: "كان من الممكن أن ألقي بها في ترعة ما، فيجرفها التيار... فقط لو أنها أصغر حجمًا...!"

زارته بغتة مشاهد من الأمسية الفائتة، كم أمتعته هذه التجربة الجديدة!
"الأطفال مزعجون جدًا، وبكاءون ومراوغون. مثل هذه الأمور تحتاج إلى الهدوء..
ببعض من الأفيون، استطعت جعل فتاتي حبيبة وديعة، وبقليل من السائل الأحمر المختمر، مُحيت ذاكرتها، وشاركتني اللذة دون أن تشعر".
قد آمن هو، منذ زمن ليس ببعيد، بأنه أحق بالمتعة من أحمق سيمر فوق هذا الجمال، فيشوههه ويفنيه ببلاهة.

الثلاثون كيلو جرامًا المحمولين على كتفه خسروا الكثير من الحرارة.
"إنها متجمدة..."
مرت أول سيارة على الطريق القريب مسرعة، فأصدرت صوتًا يشبه السوّط المنطلق، فارتعشت أوصاله، وطقطقت أسنانه..

استقل سيارته إلى الجبل القريب، حيث سيلقي بها...
بينما ينبسط أمامه الطريق متواطئًا، شرع يفكر فيمَ ستلقاه بين تلك الصخور الموحشة.
"مخالب الخفافيش.. وأسنان المفترسات..."
تنهد بحزن: "خسارة.."
حين وصل إلى النقطة المنشودة، أخرج من السيارة سجادةً، وقام بفردها، ثو وضع الفتاة شبه المتصلبة على أحد طرفيّها، ولفها بعناية.
"هل تحول الخيوط المتشابكة بينها وبين وحوش الليل؟"

كلما حاول الابتعاد، تباطأت قدماه وتشبثت بالأرض، لا يعرف لذلك سببًا... صوت داخلي يأمره بالعودة فورًا. لم يسبق له أن توانَ أبدًا عن التخلص من شريكة، ماذا دهاه؟!

"هذه هي كليوبترا في سجادتها!!  فلِمَ تكون الثعالب والضباع هي القيصر؟"
قَفَل عائدًا إلى الجثة، سيعيدها إلى المنزل ويواريها في التراب قرب سابقاتها ... بجانبه .

رأى الفتاة، فأحس بحنين نقي لم يختبره  قبلًا، كأنه على موعد مع حب حقيقي...
هرع إليها... تعثر... سقطت نظارته. وعندما هم بالقيام، لمح ما يتلوى مقتربًا... خُيّل إليّه أن فتاته ستقوم من مرقدها. غمرته  فرحة، ومدّ إليها يده...
سمع فحيحًا -على غير توقعه-، ثم انقض الهيكل الراقص على ذراعه...
شعر بألم متفاقم، كصدىً مزعج يستمر في الازدياد والارتفاع. اِستل سلاحه الزجاجي الذي انكسر أسفله... ووضعه فوق أنفه... وفي اللحظة التي اتضَّحَت فيها الرؤية، رأى في ساعِده ثقبين ينزفان. ولدهشته... ظهرا كما لو كانا ينظران إليه باستهزاء.


الاثنين، 12 نوفمبر 2018

رسالة من صديق



"عزيزتي...
فلتلتمسي له العذر...
ولا أنصحك بأن يكون هذا العذر هو انشغاله أو دراسته، بل أنه لا يفكر بكِ بقدر ما تتوقعين، وأنتِ بالفعل لا تستحقين.
إني لا أنفك أن أتساءل منذ قرأت رسالتك... لِمَ تتوقعين أنكِ بهذه الأهمية؟
أعلم أنكِ حاولتِ الكتابة لي دون أن ترثي ذاتك، ولكن دعينا نعبث ونتهكم قليلًا.
فكما تعلمين، أنا أعشق الكوميديا السوداء...

سوف أستخلص –لأجلك- الحدث الفارق في قصتك، وأوضح لكِ مدى بلاهتك بشكل لا جدال فيه!

جلستِ وحدكِ كالعادة في ذلك المقهى، وكان هو هناك... وحيد أيضًا، ولكن في ركن آخر. بعد برهة، جاء إلى طاولتك وتبادل معكِ حديثًا طويلًا... "محادثة غير مملة رغم ما استنفذته من وقت... حميمية وغير متكلفة" حسب وصفك...
كأنكما فنجانا قهوة كتب لهما البقاء إلى الأبد... معًا.. على رفٍ ما...

نسيتِ - يا حلوتي – أن الخزف ينكسر في النهاية!

أخذ يسرد لكِ تفاصيلًا عن حياته: سقطات وذكريات وحب قديم. فظننتِ أن علاقتكما توطدت، وأضحت صداقتكما حقيقية لا افتراضية.
أقدر ذلك وأتفهمه...
ما لا أستسيغه أبدًا هو شعورك بالتميز بعدها...
لِمَ افترض دماغك الخاوي أنكِ كنتِ المختارة تلك الليلة ليعبر لكِ عن عبثية حياته؟ وبافتراض أنكِ مختارته حقًا، لمَ لَمْ يكرر الفضفضة؟

هل سألتِ الجميع ووجدتِ أنكِ ناصحته الوحيدة؟ بالعكس! أنتِ آخر من عَلِم! ولَمْ يطلعكِ على أي خبر جديد!
إنكِ تعرفين ذلك حق المعرفة.

سأسرد لكِ الوقائع كما هي:
ملّ القراءة، أو أيًا ما كان يفعل. شعر برغبة لحظية ومُلحة في الكلام، فبدوتِ له للّحظة أفضل من يساعده لسد تلك الحاجة! رأى أذنيكِ تصغيان وعينيك تستجيبان لضحكاته وحزنه. كمسافر عابر مر بحانة.. فتسكره الخمر، ويروي قصصه للساقي المسكين.
هو لا يرى فيكِ أمانة أو خصلة فريدة ترفع من قدرك فوق الآخرين، فقط... كنتِ ساقيته في سهرة مرهقة.

عليكِ أن تستوعبي حقيقة الأمر، وإلا فبئس الحمقاوات أنتِ!
يكفي ما طاردتِ من أوهام، وما سكبتِ من دموع على عتبة كل زائر.
فلتتوخِ الحذر... والرحمة بعقلك الضعيف.


تحية
ت".

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

ربما

(1)

قالت أمي ذات صباح:
*"يجب أن تقللي من توترك".
-"ازاي؟"
*"زي الناس"
-"إني أحاول، لكني لم أفلح بعد".
*" مفيش وقت للمحاولات! اتصرفي! الناس كلها كويسة ما عدا انتي اللي مجنونة".
-"مش قلتي زي الناس؟ يبقي في ناس زيي، يمكن لو اتواصلت مع ناس زيي..."
قال أبي حينها: "غبية! ستفضحين نفسك!"
أيّدته أمي.
أمي تقول وأطيعها في كل شئ، حتي في حبها لأغاني جورج وسوف الذي بالكاد أتقبله الآن...
***
*"شعرك وحش، أكيد أنيميا"
-"يمكن توتر؟"
****
*"وشك أصفر، أكيد عشان بتعيطي لوحدك بالليل"
-"يمكن أنيميا؟"
***

 أمي قالت:"لا يفترض بك التحدث مع الناس!"
بعد هذه الجملة بالذات، لبثت لا أتحدث وسط الناس أبدًا.
قالت بعصبية "اتلحلحي!"
ولكني استغرقت وقتًا طويلًا حتي "أتلحلح"، كنت أجلس صامتة أغلب الوقت وأتجنب أن أنطق. إن قلت شيئًا قلته خائفة. وكان خوفي يجعلني أرد بما لا يتناسب مع الكلام الموجه إليّ. فيزداد انكماشي.
قال أبي"لمَ أنتِ صامتة طوال الوقت؟"
-"عادي"
أبي قال ممازحًا :"أنتي متوحدة".
ابتسمت، وبالطبع لم أصدقه...
قالت أمي"ستصير متوحدة" فصدقتها.


(2)

وصلت لمرحلة ما... حيث رفض هذا النظام أن يعمل بنفس الكفاءة...
أصبحت أكوِّن أفكارًا مستقلة عن الناس وعن نفسي، وأخبرها.
فتقول أشياءً تختلف عما توصلت إليه... أصدقها. لكن لم يكن كل ما تقوله واقعيًا، لم تكن كل أحكامها عن الناس وعني صحيحة.
وصلت لثوابت تختلف مع ثوابتها بشدة، فقررت: "أنتِ منبوذة وتحاولين لفت الأنظار".


أصبت بالاكتئاب وضربتني نوبات الهلع مراتٍ عدة، فأصبحت "المجنونة، المهيأة لبيع عقلها وروحها لقاء اهتمام الناس".

تشاجرنا مرات....
قلت:"كان من المفترض أن تتوقعي أننا سنصل إلي تلك النقطة اللعينة، حيث تتباعد أفكارنا بحيث لا تتلاقي أبدًا"
قالت "كلام فارغ! شعوذة! توقفي عن إختلاق الأمور!"
- "أنا تعبت!"
* "تعبتي؟! ها انت ذا تأكلين وتشربين كأنكِ لم تخطئي!"
أفكر :" ربما بالفعل لم أخطئ..."

تقول أني باردة ولا أشعر بأحد، لا أصدقها.
تقول أني مجنونة، أقول:"ربما"

أخبرها أن هناك من هو معجب بي، تُبخسه قدره وتقول "أنتِ معقدةٌ صغيرةٌ، لا يمكن أن يعجب بكِ أحد".

فأخفي عنها قصة حبي...
ثم تكتشف، وتملأ الكون صراخًا. تمر فترة، تجد الوضع ليس سيئًا كما تقول.. تتصنع التقبل.. أصدقها... تتهكم... تحطمني.. فاحطمه.
تقول :"في داهية".
أفكر: كان شخصًا سيئًا، لكني أشعر أني سأموت بدونه" فلم أستطع أن أصدقها، رغمًا عني هذه المرة.
***

تقول" أنتِ سمينة" أصدقها...

تقول" أنتِ غير نظيفة" أصدقها...

تقول "سيُلقي بكِ الله في جهنم" أدّعي عدم الاهتمام، لكن في النهاية أصدقها.

أسأل في عناد:"لمَ؟"
*"لأنك لا تطيعي أمك..."
أفكر: "أريد أن أطيعك، لكن لا أعرف كيف أرضيكِ".

تقول "كرهتك خلاص، والكل هيكرهك".
للأسف صدقتها...


(3)
أمضيت سنواتٍ في صحراءٍ جرداء، أحارب الريح حتي أحفر قبري، بينما يبحث الآخرون عن شجرة برتقال علي وشك أن تزهر. حتي يُدفنوا تحتها. يريدون أن يظلوا خالدين... في جذور الشجرة ولحائها وفروعها، وفي أزهار البرتقال. وفي جسد كل عصفور سيأكل من الشجرة، وفي عسل كل نحلة ستستخلص رحيق تلك الأزهار.
سأكون جثة عفنة تحت أطنان من التراب الساخن، بينما تطفو جثثهم تحت بقعة يغطيها الظل والنسيم، معطرة برائحة البرتقال.
***
أمضيت سنوات أكره نفسي، أنكر الصالح في ذاتي وفي تصرفاتي وأسبب لنفسي اكتئابًا حادًا، بينما يبحث الآخرون عن كل ميزة صغيرة في أنفسهم، فيصنعون منها شجرة برتقال رائعة الجمال، توشك أن تزهر.
يرجع تصرفي المُرهِق ذاك لإيماني خلال تلك الفترة بأن الجميع يكرهني، ما أفعله لا يحدث فارقًا، لا أحد يراني، لا أحد يذكرني. أنا كالهواء... بل كالفراغ.
أنا أمشي كالجثة العفنة، وما زاد الأمر سوءً انني أشعر.
أنا حزينة بشدة، لا شئ يعجبني، لا شئ يفرحني، ابتسامتي تأبى الخروج. أصبحت لا أريد إلا أن أموت. وكل شئ أفعله يوحي بذلك، حتي طريقة تنفسي تفضحني. الهواء يدخل جسدي قائلًا: "أتري هذه الفتاة؟ سوف تنتحر الأسبوع القادم!"
***

تقول "أنتِ أفضل من هذا" لا أصدقها...
تسأل: "لم أنتِ حزينة؟" فلا أجيب...
تشتري مضادات الاكتئاب وتتابع التحسن...
تلاحظ الآثار الجانبية للدواء: كأن أسمع أصواتًا أوأري كوابيسًا.
لا تعرف ماذا تصنع... تبكي علي سجادة الصلاة. 
أصدقها.

أخبرتها أنني اكتسبت بعض الأصدقاء، لم تصدق.
أخبرها اني أتحسن، لا تصدق.
أخبرها أني أكتب... تتهكم.

أريها إحدى قصصي فتقول "ليست جيدة كفاية كي تمشي في طريق الكتابة".
أقول: "ربما أتحسن مع التدريب".
تقول: "لا لا... أنتِ لست موهوبة، انشغلي بشئ آخر".
أقول: "ربما"
لكني لم أجد مأوً إلا الكتابة، فظللت أكتب وأكتب، فتحسنت. 
وعندها تساءلت عن سبب قولها أنني لست جيدة كفاية، وخلُصْتُ إلي فكرة أنها لا تعرف ماذا تصنع إلا ألا تصدقني.

تقول أنها تدعمني دائمًا، أفكر "هي تدعمني لكن ليس دائمًا"... لا أعرف ءأصدقها أم لا. قلت في نفسي: "دماغ الانسان الصحيح مبرمج كي يضع صاحبه في مكانة أفضل، لا بأس".

ما بين التصديق وعدم التصديق و"ربما"، وجدت أني أحفظ أغلب كلامها، ما تقصد منه وما لا تقصد. أعطيته حجمًا أكبر، اعتبرته أوامر من جهة عُليا موثوقة، رأيها لا جدال فيه.
أمي تقول، لكنها إنسان. أمي تخطئ أحيانًا.


(4)
أمي تقول وتقول، وتتباين ردة فعلي من التصديق وعدمه.
أمي تقول "كاذب" لمن يغضبها، كما يقول أبي "كافر" لمن يغضبه.
هي لا تصدق شيئا ولا تكذب شيئا، هي تشك...
فقط تشك...
تتصيد لنا الأخطاء والسقطات لتثبت أننا نكذب منذ بدء الخليقة.

أمي كانت تدافع عني وكنت أصدقها.
أما الآن، كلما فعلت ذلك وصدقتها، أجد أنني مخطئة... لا أعلم لم تتكبد العناء إذًا؟ 

أمي تقول: اعتزلي الأنشطة، فلا أفعل.
"تأخذ من وقتك وتتعبك".
"تأخذ من وقتي لكني أحبها".
"حب؟ كلام فارغ!"

تتنمر وتتهكم، لا أرد.
توكل لي مهامًا فافعلها، تغضب لأني لم أفعل أكثر.
***
شاهدت منذ فترة مسلسل "أصدقاء". أنعش ذاكرتي المشهد حيث تقول الفتاة لصديقها: "لا يفترض بك التحدث مع الناس!"
فتذكرت أمي حين قالت هذه الجملة منذ سنوات.
يستمر الشاب في كونه علي طبيعته، لا يتوقف عن التحدث مع الناس ولكن يحاول أن يتحسن... لا يكرهه أصدقاؤه.
أنا توقفت عن كوني علي طبيعتي وعن التحدث مع الناس لفترة. لم يتحسن الوضع. ثم استأنفت التحدث مع بعض التعديل. أجبرت نفسي علي الابتسام كثيرًا، ومزحت كثيرا. لم يتهكم الناس كما تفعل أمي، بل ضحكوا. واكتسبت بالفعل الكثير من الأصدقاء.
***

أتشاجر مع أحدهم، تقول أمي "يجب أن تكوني أقوي من ذلك. يجب أن تتعلمي فن وضع كل موقف في مكانته الصحيحة".
أخبرها أني نجحتُ في شئ ما، تقول"جيد! أخيرًا أصبحتِ أفضل كما كنتِ قبلًا!" 
لا أذكر أنني كنت أفضل بالشكل الذي تعتقده.

أنا وأمي نتشاجر، أبكي، تهينني. فأحاول وضع الموقف في مكانته الصحيحة. أقف علي قدي وأمارس عملي. تغتاظ أكثر. تتشاجر، تزيد الإهانة... تحطمني، فاحطم نفسي أكثر.
أنهار ثم أستفيق.
أخرج من قاع الحفرة اللعينة شبه ممزقة، أقف علي قدميّ المصابتين إثر رحلة الصعود.
أحاول أن أكمل يومي بينما يأكلني كل شئ. تغتاظ ولا ترى أني منهكة، لا شئ يزداد إلا غضبها.
بالتأكيد هي لا تريدني أن أظل ضعيفة، ولكن علي الأرجح هي اعتادت علي رؤيتي مكسورة وساكنة. هي خائفة من تغير الأوضاع.
ولكن رغم ذلك، لا أذكر أيضًا أنني كنت منكسرة هذا الانكسار كله، أو ساكنة إلي هذا الحد.
لم أكن أبدًا حشرة ميتة في أحد الأركان.

تقول أمي "أكرهك منذ زمن بعيد".
لا أصدقها.
تقول"مجنونة".
لا أصدقها.
تذهب لإخوتي وتقنعهم أني مجنونة، يجيئون جميعًا إلي، كحجاج علي وشك تأدية فريضة مقدسة... ينظرون إلي باستنكار ممزوج بالشفقة...
يقولون :"مجنونة".
لا أرد، أفكر"ربما..."
وأترك المنزل.

الثلاثاء، 21 أغسطس 2018

أمي.. هذا الصباح


لامتني أمي هذا الصباح لأني لم أقل " صباح الخير"، ولأني لم أتمني لها عيدًا سعيدًا اليوم...

حاولت أن أشرح لها أني في الواقع أتحدث بصعوبة، أخجل وأتلعثم ولا أرتب كلماتي، وأشكك مائة مرة في قبول من هم أمامي لي قبل أن أنطق، وخصوصًا أهلي، فقد أظهروا الكثير من عدم القبول أو الصفح قبلًا. وأخبرتها أنني لا أري مشكلة في ذلك، فالناس يختلفون في شخصياتهم.
ثم حاولت أن أخبرها أنني كنت علي وشك أن أتمني لها عيدًا سعيدًا لولا أني وجدتها منشغلة.
لم تصدقني، ورأت أن كلامي متناقض. أردت أن أقول: "هو غير مرتب، لكنه ليس متناقضًا يا أمي..."
لامتني أمي هذا الصباح لأني لم أقل " صباح الخير"، فاختصرت حياتي كلها في يوم واحد، كنت أشعر فيه ببعض الخجل.
علقت علي دفاعي عن تباين الشخصيات بــ "أني كبرت علي هذا الهراء الذي أقوله، وأن كون الفتاة منطوية يعني أنها مصابة بقصور في النمو أو مريضة مشلولة غير مهمة ولا يجب أن يُنظر إليها حتى..."
فلم أفهم، هل يعني هذا أن حياتي كلها كانت هراء؟ هل اعتُبِرَت كل الحكايا والمحادثات التي كنت أعبر فيها عن شعوري غير مهمة وغير صحيحة؟ وكل شكواي وأفكاري التي بُحت بها ذهبت أدراج الرياح؟
كلنا نخطئ بالطبع، لكني لا أذكر أني كنت أخطئ لهذه الدرجة من الهذيان!
قالت " لقد كنتي أفضل أثناء المدرسة الإعدادية..."
لم أرد، فهذا هو الهذيان بعينه، لقد كانت حياتي المدرسية لا تطاق، كنت أنكب علي المذاكرة والقراءة بسبب عجزي الشديد عن الإختلاط بأي شخص. وكانت تلومني علي ذلك أيضًا.
وفي بعض الأيام كنت أحكي معها بالساعات عن أحداث اليوم حين يكون يومًا حافلاً مثلًا، أو عن نظرتي النسوية بعض الشئ أو عن أرائي عن الأديان والمعتقدات، والتي كانت تقسم لي كل مرة أنها ستنمحي، لكنها ازدادت رسوخًا. كنت أحكي معها لأنها لم تكن تحكم علي، وظننت أنها تتقبلني، لكنها لم تكن قد أصدرت أحكامًا بعد لاعتقادها أنني سأصبح كما تريد، فلم أصبح، فعجزت عن تقبلي. وفي السنوات التي تلت ذلك، عجزت عن تقبل نفسي أنا أيضظصا، واستطعت مؤخرًا تقبلها بصعوبة بالغة.
قالت "أخوكي يحكي مع فلان، وأختك تحكي مع فلانة، وأنا كلمت خالاتي، وكذا وكذا وكذا"
لمَ المقارنات؟ ءأنا وإخوتي توائم روح؟
بالإضافة إلي أن: أخي لا يطيق الخروج من غرفته إلا حين يذهب خارج المنزل، وأختي لا تتحدث تقريبًا لأن خجلها لا مثيل له، وخالتكِ مريضة بالسرطان، إن لم تحكِ معها اليوم فربما لا تجدينها غدًا! لم تجعلين من الحقائق صلصالًا، فتحولينها من أشكال بائسة معبرة عن واقعنا إلي أصنام متبسمة المنظر؟ ( رغم أنها هشة الهيكل بشكل فاضح!)
دائمًا أريد أن أقول، لكني أفكر وأصمت، لأنني أعلم أني سأجد استهزاءً فقط. ولن تصدق حرفًا مما أقول. ستصدق فقط في حالة قال لها طبيب أو بالأحري شيخ ما: " لقد سببتم لابنتكم تدميرًا لا يمكن إصلاحه..."
لامتني أمي هذا الصباح لأني لا أقول " صباح الخير" ولأني لم أتمني لها عيدًا سعيدًا اليوم، فدمرت جذور البسمة التي رسمتها على شفتاي بصعوبة. وكانت تلك البسمة آخر محاولاتي للحفاظ علي بعض البهجة خلال هذا العيد المزعوم.

الثلاثاء، 3 أبريل 2018

قصاصات غير هامة


أنا أصرخ صرخات مكتومة، من ألم أسناني أحيانًا، ومن ألم القولون أحيانًا أخري.
يصرخ صاحب المكان في غضب "نعملك ايه يعني؟" ويلومني لأني أتألم، لم يذق ألأمًا مبرحًا منذ أن أصيب ببعض البرد منذ شهور، أخذ ينطق بالشهادتين ويتآوه. وقفنا بجانبه وقمنا باللازم. بعدها بشهر أصبت بالتهاب في العصب الخامس بسبب أسناني، فصب جمام غضبه عليّ لأني أبكي وأنا كبيرة هكذا، بينما كنت أصارع الألم بأكياس الثلج والمسكنات وأطلب مقابلة الطبيب منذ ساعات.
لم يتذكر الأخ الكبير، الذي يراقبنا، ويقصينا ويحرمنا من نعيم كلماته الدافئة حين نخطئ ، أنني منذ أقل من عام، أصبت بإلتهاب معوي ثم إلتهاب كبدي، وكنت أذاكر وأذهب للامتحان. حقاً إنني لمدللة.
أسمع  "معلش" خافتة تتهادي من بعيد، بينما لا ترفع صاحبتها ناظريها إلي. فهي تخشي الأخ الكبيردائمًا، فتتركني له عند الشدائد، فيحطم مني قدر ما يستطيع، وتأتي لتشاركه في إلقاء اللوم خوفًا ورهبةً منه.
هناك ظل بعيد لشخص يراقب، وأسمعه  يسخر من الموقف. آخر مرة سمعته يشكو، حسبته طفل مصاب باللوكيميا، ثم علمت أنه كان يعبر عن ضيقه لأن الجوع بدأ يغزو معدته ولم يُحضَّر له شيء يأكله.
ولكني دائمًا أري المرأتان الواقفتان هناك، وسيأتون لمساعدتي حين يرحل البقية، لأنهن إن ظهرن الآن، سيلحقهن من التحطيم ما هو أشد.
والآن، يجب أن أقف وحدي. أتذكر أن ذاكرتي السمعية سيلتصق بها كلامهم لفترة طويلة، فألعن حظي.

 يتعجبون مما يظهر من حزني، فلا أرد. يزداد عبوس وجهي فينفرون مني أكثر... وأقول لنفسي: نحن في مكان لا نسمع فيه إلا لغو الوهابية ولغط الألفاظ والاتهامات، لا تقال هنا "شكرًا" أو "ألف سلامة" إلا في الخفاء أو حين يهنئ بال أحدهم قليلًا، كأننا في مخبئ تحت الأنقاض، يهتم كل امرئ بالاختباء من الحرب القائمة أعلاه، ويخفي ذاته تحت عباءه من الغلظة وسوء الظن، والتوتر والقلق أحيانًا. 

الأحد، 25 مارس 2018

خاطرة علي هيئة رسالة

أنا أتحدث الآن، أخيرًا...
كنت أحاول إقناع نفسي أنه لا جدوى من الحديث أو الكتابة، ولكنني أشعر ببعض الألم في صدري، فكرت أنه من الخطير أن أبقي هكذا. كما أنني لا استطيع التركيز، لأن عقلي يرسل لي عبارات تعبر عن حالتي المزاجية الآن، فتزداد سوءً.
لا أعرف يا عزيزي، لمَ أفكر بك كثيرًا هكذا؟ منذ مدة، في الواقع... قلت لك أنها كانت فترة قصيرة وانتهت، ولكني كذبت. حاولت أن أتوقف ولم أفلح.
وكيف أفلح ونحن نتراسل أغلب أيام الأسبوع؟

أخشي أن تقرأ هذا فنفترق، أنا لا أستطيع تحمل ألا تراسلني. من الصعب علي ألا أرى محادثتنا علي رأس القائمة، وخصوصًا حين أكون حزينة، وحين يراسلني الجميع عداك، يضيق صدري بشدة.

تقول أن لا أحد يستطيع تهوين الحياة عليك، وأنك لا ترتاح حين تتحدث مع أي شخص. ثم تحدثني بشكل طبيعي جدًا، ربما يقترب من اللطف. أم أنني أتوهم؟ أم أنني أراك لطيفًا في كل أحوالك؟ إن كانت محادثتي لا تشكل فرقًا، لمَ مازلت تراسلني وترد علي رسائلي؟

أكتب هذه الكلمات علي هيئة الرسالة، لكني سأحولها إلي خاطرة؛ لأني لن أرسلها إليك أبدًا. عندما حاولت أن أخبرك أن تفكيري بك يرهقني، قلت أنني عنيفة. لقد كنتُ منزعجة، ولكن أكنت عنيفة حقًا؟ فأنا لا أذكر أني وجهت إليك أي اتهام.

أتخيل أنك إن رأيت هذه الفقرات والكلمات ستقول:" لم ألمح لها بشيء، ولم أطلب منها أن تحبني. هي صديقتي ليس إلا..." وسأعرف أنك قلتَ ذلك معربًا عن انزعاجك لأحدهم.
ربما تنتهي حياتي بالشكل الذي أعرفه حينها، ربما أصبح شخصًا آخر.

اليوم، تعرضت لموقفٍ غريب...
كنت أنظر إلي السقف منهكة بعد يوم من العمل المرهق، أرتدي عويناتي الطبية، مع أحمر شفاه ممسوح بعدما أكلت. يحسب الرائي أني علي وشك أن أغط في سباتٍ عميق. هزت ذراعي سيدة مسنة، قالت أنها أعجبت بي جدًا. تريد عروس لقريبها. تخيل!!
كنتَ تصفُ حبك الأخير "بالمثالية"، حينها أدركت أنني أبعد عنك بمسافات. لكن هذه السيدة، وعلي هيئتي "المبهدلة" تلك، قالت "مفيش شيء يعيبك".
لقد تحدثتُ معها علي سبيل الهزل، أردت فقط أن أعرف ما يلي من سيناريو الخاطبة. وحين تصل إلي منزلها ستدرك أنها نسيت اسمي. ضحكت من قلبي بسبب الخجل وطرافة الموقف الذي أتعرض له لأول مرة في حياتي، ربما رافق ذلك بعضٌ من السعادة بسبب مديحها.
لكن لم تمضِ عشر دقائق حتي اجتاح وجداني شجنٌ، وشعرت بحزنٍ يضعف جسدي ويبطء خطواتي...
كنت تعمل في مكان قريب، ربما في خارج أو داخل المبني، رأيتك أكثر من مرة، ولم نفعل شيئًا إلا أن ألقينا التحية علي بعضنا البعض. ربما مررت بعدها فقلت لي "استمتعي بالعمل..." ممازحًا ومضيت. لا داعي لذكر أنني حين أراك أتوتر بعض الشيء، وأن تلك المزحة الصغيرة منك تبدد توتري. أحب أن أحدثك، بينما أفرد ظهري وأرفع رأسي لأنظر إليك، للأعلي، وأفعل ذلك بوجداني أيضًا. هذه معلومات علي الهامش.
بعد أن ودعت السيدة، ورأيتك بالخارج تتحدث وتضحك، لم استطع أن أتوقف عن استراق النظر. هل تعلم ماذا قررت حينها؟ قررت ألا أشارك في أعمال جماعية أنت تشارك فيها! لقد كنت أراقبك وسط جمع من البشر، وكلهم يعرفوننا! أتري كم أنا حمقاء؟!
ثم أحاول أن أخفي هذه الحماقة بألا أريك هذه الخاطرة!
كنت أريدك أن تستمع إلي تلك السيدة، ربما تقتنع أنني أفضل مما تظن...
أنت تفكر كثيرًا في حبك السابق، تكاد لا تراني، انزعجتُ منك مرة فلم تر في حديثي إلا أنه نقد لا مبرر له! لا تفيدك كلماتي الإيجابية... لماذا أظل أفكر فيك إذًأ؟!
ربما لأني أري أنني حمقاء وغبية في أغلب الأحوال، لذلك أعاقب نفسي بك يا عزيزي... لا لا أنت لست عقابًا! تريث وأفهم ما أريد قوله. أنت من أفضل من قابلت، حقًا. ولكننا كالسِّند والفرات، بيننا أشياء مشتركة، لكنا لا نلتقي أبدًا. وزاد علي ذلك جفاف الفرات المتعاظم مهما زادت فيضانات السند. فلا علاقة بينهما.

أنا لا أعرف إن كنت قد قرأت القصص التي نشرتها، فهل ستقرأ يومًا هذا الهراء الملئ بالضعف؟ وبفرض أنك بوسيلة ما، قرأته، هل سيؤثر فيك؟ أستهتز شعرة؟ هل ستتساءل عما رافق هذا النثر، ضحكٌ أم بكاء؟ لا أعلم.
أنا لا استطيع أن أوقف هذا، ولا استطيع أن أحبك أكثر دون أن أعلم إلي أين سيئول حبي، وهل ساستطيع أن أقنعك، بحبي فقط، أن تلتفت إليّ؟

أنا كمن يكاد يغرق في مياة شاطئية ضحلة، رغم ذلك، لا يقاوِم: لا أريد أن أعتدل عن استلقائي المريح على صفحة ماء البحر النقي.. الدافئ، لكني أُرهقت وبدأت أفقد توازني... وأختنق.