الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

ربما

(1)

قالت أمي ذات صباح:
*"يجب أن تقللي من توترك".
-"ازاي؟"
*"زي الناس"
-"إني أحاول، لكني لم أفلح بعد".
*" مفيش وقت للمحاولات! اتصرفي! الناس كلها كويسة ما عدا انتي اللي مجنونة".
-"مش قلتي زي الناس؟ يبقي في ناس زيي، يمكن لو اتواصلت مع ناس زيي..."
قال أبي حينها: "غبية! ستفضحين نفسك!"
أيّدته أمي.
أمي تقول وأطيعها في كل شئ، حتي في حبها لأغاني جورج وسوف الذي بالكاد أتقبله الآن...
***
*"شعرك وحش، أكيد أنيميا"
-"يمكن توتر؟"
****
*"وشك أصفر، أكيد عشان بتعيطي لوحدك بالليل"
-"يمكن أنيميا؟"
***

 أمي قالت:"لا يفترض بك التحدث مع الناس!"
بعد هذه الجملة بالذات، لبثت لا أتحدث وسط الناس أبدًا.
قالت بعصبية "اتلحلحي!"
ولكني استغرقت وقتًا طويلًا حتي "أتلحلح"، كنت أجلس صامتة أغلب الوقت وأتجنب أن أنطق. إن قلت شيئًا قلته خائفة. وكان خوفي يجعلني أرد بما لا يتناسب مع الكلام الموجه إليّ. فيزداد انكماشي.
قال أبي"لمَ أنتِ صامتة طوال الوقت؟"
-"عادي"
أبي قال ممازحًا :"أنتي متوحدة".
ابتسمت، وبالطبع لم أصدقه...
قالت أمي"ستصير متوحدة" فصدقتها.


(2)

وصلت لمرحلة ما... حيث رفض هذا النظام أن يعمل بنفس الكفاءة...
أصبحت أكوِّن أفكارًا مستقلة عن الناس وعن نفسي، وأخبرها.
فتقول أشياءً تختلف عما توصلت إليه... أصدقها. لكن لم يكن كل ما تقوله واقعيًا، لم تكن كل أحكامها عن الناس وعني صحيحة.
وصلت لثوابت تختلف مع ثوابتها بشدة، فقررت: "أنتِ منبوذة وتحاولين لفت الأنظار".


أصبت بالاكتئاب وضربتني نوبات الهلع مراتٍ عدة، فأصبحت "المجنونة، المهيأة لبيع عقلها وروحها لقاء اهتمام الناس".

تشاجرنا مرات....
قلت:"كان من المفترض أن تتوقعي أننا سنصل إلي تلك النقطة اللعينة، حيث تتباعد أفكارنا بحيث لا تتلاقي أبدًا"
قالت "كلام فارغ! شعوذة! توقفي عن إختلاق الأمور!"
- "أنا تعبت!"
* "تعبتي؟! ها انت ذا تأكلين وتشربين كأنكِ لم تخطئي!"
أفكر :" ربما بالفعل لم أخطئ..."

تقول أني باردة ولا أشعر بأحد، لا أصدقها.
تقول أني مجنونة، أقول:"ربما"

أخبرها أن هناك من هو معجب بي، تُبخسه قدره وتقول "أنتِ معقدةٌ صغيرةٌ، لا يمكن أن يعجب بكِ أحد".

فأخفي عنها قصة حبي...
ثم تكتشف، وتملأ الكون صراخًا. تمر فترة، تجد الوضع ليس سيئًا كما تقول.. تتصنع التقبل.. أصدقها... تتهكم... تحطمني.. فاحطمه.
تقول :"في داهية".
أفكر: كان شخصًا سيئًا، لكني أشعر أني سأموت بدونه" فلم أستطع أن أصدقها، رغمًا عني هذه المرة.
***

تقول" أنتِ سمينة" أصدقها...

تقول" أنتِ غير نظيفة" أصدقها...

تقول "سيُلقي بكِ الله في جهنم" أدّعي عدم الاهتمام، لكن في النهاية أصدقها.

أسأل في عناد:"لمَ؟"
*"لأنك لا تطيعي أمك..."
أفكر: "أريد أن أطيعك، لكن لا أعرف كيف أرضيكِ".

تقول "كرهتك خلاص، والكل هيكرهك".
للأسف صدقتها...


(3)
أمضيت سنواتٍ في صحراءٍ جرداء، أحارب الريح حتي أحفر قبري، بينما يبحث الآخرون عن شجرة برتقال علي وشك أن تزهر. حتي يُدفنوا تحتها. يريدون أن يظلوا خالدين... في جذور الشجرة ولحائها وفروعها، وفي أزهار البرتقال. وفي جسد كل عصفور سيأكل من الشجرة، وفي عسل كل نحلة ستستخلص رحيق تلك الأزهار.
سأكون جثة عفنة تحت أطنان من التراب الساخن، بينما تطفو جثثهم تحت بقعة يغطيها الظل والنسيم، معطرة برائحة البرتقال.
***
أمضيت سنوات أكره نفسي، أنكر الصالح في ذاتي وفي تصرفاتي وأسبب لنفسي اكتئابًا حادًا، بينما يبحث الآخرون عن كل ميزة صغيرة في أنفسهم، فيصنعون منها شجرة برتقال رائعة الجمال، توشك أن تزهر.
يرجع تصرفي المُرهِق ذاك لإيماني خلال تلك الفترة بأن الجميع يكرهني، ما أفعله لا يحدث فارقًا، لا أحد يراني، لا أحد يذكرني. أنا كالهواء... بل كالفراغ.
أنا أمشي كالجثة العفنة، وما زاد الأمر سوءً انني أشعر.
أنا حزينة بشدة، لا شئ يعجبني، لا شئ يفرحني، ابتسامتي تأبى الخروج. أصبحت لا أريد إلا أن أموت. وكل شئ أفعله يوحي بذلك، حتي طريقة تنفسي تفضحني. الهواء يدخل جسدي قائلًا: "أتري هذه الفتاة؟ سوف تنتحر الأسبوع القادم!"
***

تقول "أنتِ أفضل من هذا" لا أصدقها...
تسأل: "لم أنتِ حزينة؟" فلا أجيب...
تشتري مضادات الاكتئاب وتتابع التحسن...
تلاحظ الآثار الجانبية للدواء: كأن أسمع أصواتًا أوأري كوابيسًا.
لا تعرف ماذا تصنع... تبكي علي سجادة الصلاة. 
أصدقها.

أخبرتها أنني اكتسبت بعض الأصدقاء، لم تصدق.
أخبرها اني أتحسن، لا تصدق.
أخبرها أني أكتب... تتهكم.

أريها إحدى قصصي فتقول "ليست جيدة كفاية كي تمشي في طريق الكتابة".
أقول: "ربما أتحسن مع التدريب".
تقول: "لا لا... أنتِ لست موهوبة، انشغلي بشئ آخر".
أقول: "ربما"
لكني لم أجد مأوً إلا الكتابة، فظللت أكتب وأكتب، فتحسنت. 
وعندها تساءلت عن سبب قولها أنني لست جيدة كفاية، وخلُصْتُ إلي فكرة أنها لا تعرف ماذا تصنع إلا ألا تصدقني.

تقول أنها تدعمني دائمًا، أفكر "هي تدعمني لكن ليس دائمًا"... لا أعرف ءأصدقها أم لا. قلت في نفسي: "دماغ الانسان الصحيح مبرمج كي يضع صاحبه في مكانة أفضل، لا بأس".

ما بين التصديق وعدم التصديق و"ربما"، وجدت أني أحفظ أغلب كلامها، ما تقصد منه وما لا تقصد. أعطيته حجمًا أكبر، اعتبرته أوامر من جهة عُليا موثوقة، رأيها لا جدال فيه.
أمي تقول، لكنها إنسان. أمي تخطئ أحيانًا.


(4)
أمي تقول وتقول، وتتباين ردة فعلي من التصديق وعدمه.
أمي تقول "كاذب" لمن يغضبها، كما يقول أبي "كافر" لمن يغضبه.
هي لا تصدق شيئا ولا تكذب شيئا، هي تشك...
فقط تشك...
تتصيد لنا الأخطاء والسقطات لتثبت أننا نكذب منذ بدء الخليقة.

أمي كانت تدافع عني وكنت أصدقها.
أما الآن، كلما فعلت ذلك وصدقتها، أجد أنني مخطئة... لا أعلم لم تتكبد العناء إذًا؟ 

أمي تقول: اعتزلي الأنشطة، فلا أفعل.
"تأخذ من وقتك وتتعبك".
"تأخذ من وقتي لكني أحبها".
"حب؟ كلام فارغ!"

تتنمر وتتهكم، لا أرد.
توكل لي مهامًا فافعلها، تغضب لأني لم أفعل أكثر.
***
شاهدت منذ فترة مسلسل "أصدقاء". أنعش ذاكرتي المشهد حيث تقول الفتاة لصديقها: "لا يفترض بك التحدث مع الناس!"
فتذكرت أمي حين قالت هذه الجملة منذ سنوات.
يستمر الشاب في كونه علي طبيعته، لا يتوقف عن التحدث مع الناس ولكن يحاول أن يتحسن... لا يكرهه أصدقاؤه.
أنا توقفت عن كوني علي طبيعتي وعن التحدث مع الناس لفترة. لم يتحسن الوضع. ثم استأنفت التحدث مع بعض التعديل. أجبرت نفسي علي الابتسام كثيرًا، ومزحت كثيرا. لم يتهكم الناس كما تفعل أمي، بل ضحكوا. واكتسبت بالفعل الكثير من الأصدقاء.
***

أتشاجر مع أحدهم، تقول أمي "يجب أن تكوني أقوي من ذلك. يجب أن تتعلمي فن وضع كل موقف في مكانته الصحيحة".
أخبرها أني نجحتُ في شئ ما، تقول"جيد! أخيرًا أصبحتِ أفضل كما كنتِ قبلًا!" 
لا أذكر أنني كنت أفضل بالشكل الذي تعتقده.

أنا وأمي نتشاجر، أبكي، تهينني. فأحاول وضع الموقف في مكانته الصحيحة. أقف علي قدي وأمارس عملي. تغتاظ أكثر. تتشاجر، تزيد الإهانة... تحطمني، فاحطم نفسي أكثر.
أنهار ثم أستفيق.
أخرج من قاع الحفرة اللعينة شبه ممزقة، أقف علي قدميّ المصابتين إثر رحلة الصعود.
أحاول أن أكمل يومي بينما يأكلني كل شئ. تغتاظ ولا ترى أني منهكة، لا شئ يزداد إلا غضبها.
بالتأكيد هي لا تريدني أن أظل ضعيفة، ولكن علي الأرجح هي اعتادت علي رؤيتي مكسورة وساكنة. هي خائفة من تغير الأوضاع.
ولكن رغم ذلك، لا أذكر أيضًا أنني كنت منكسرة هذا الانكسار كله، أو ساكنة إلي هذا الحد.
لم أكن أبدًا حشرة ميتة في أحد الأركان.

تقول أمي "أكرهك منذ زمن بعيد".
لا أصدقها.
تقول"مجنونة".
لا أصدقها.
تذهب لإخوتي وتقنعهم أني مجنونة، يجيئون جميعًا إلي، كحجاج علي وشك تأدية فريضة مقدسة... ينظرون إلي باستنكار ممزوج بالشفقة...
يقولون :"مجنونة".
لا أرد، أفكر"ربما..."
وأترك المنزل.