الاثنين، 4 فبراير 2019

طاولة

رمى الرجل العجوز حجري النرد بقوة، فاصطدما ببعضهما البعض، ثم أخذ أحدهما يتقلب داخل الصندوق الخشبي، و قفز الآخر خارجًا...

قام الرجل ليبحث عن المتمرد الضائع، بينما اختبأ الأخير حامدًا الله على حريته المُتأخِّرة...
أحس بالأسفلت الملتهب من تحته، وطفق يتشبع بالدفء قدر الإمكان. تأمل السيارات المختلفة وأحذية المارّة، كان متلهفًا متحمسًا... حتى ركله أحد السيّارة عن غير عمد، فتدحرج واصطدم بحائط مجاور... وهكذا عرف، لأول مرة، الألم.
لا يعلم كيف يئن، أو يصيح أو يستغيث. لمن يشكو؟ كل ما جمعه من خبرات هو نتيجة استماعه لثرثرة مستخدميه...
أيدعو الله؟ أم بشريين يشبهون صانعيه؟

أفاق من ألمه على يد تسحبه... إنه العجوز المتحذلق!
ودّ لو يستطيع المقاومة أو الفرار... تذكر سخونة الأرض، ربما جعلت جزءًا منه ينصهر! ألا يمكن أن تكون دقائقه المعدودة في الأسفل، قد أهدته بعض المرونة؟
شد أركانه الثمانية نحو المنتصف، بلا فائدة. ثم كرر المحاولة، وبالفعل، نقص حجمه! ثم حرر وجهه السفلي، فقام بوثبة ضئيلة... عجيب!
رغم نشوته لاحظ ضآلة إنجازه، لن يحقق مراده إلا إذا قام بقفزة كبيرة، أدرك استحالة إنجازها، فألمّ به الاستسلام والوهن.

قرر استغلال ما تبقى له من وقت خارج الصندوق ليحفظ تفاصيل العالم، أراد أن يمتص كل صورة، وكل منظر، وكل صوت...
لم يُحكِم الرجل قبضته عليه، فوَصَله هواء مايو الدافئ، حاملًا معه رائحة النهر البعيد، واختلطت به مشاهد صِبية يلعبون، ومبانٍ وشرفات... تتقدمها أصناف من ملابس صُّفَت بانتظام.
لاحظ تناغمًا غامضًا بين حركة أوراق الأشجار والسحب الصيفية العابرة.

هذه المدينة غالبًا ما تبدو بائسةً مُصفَّرة، جراء العواصف الترابية وشحوب المباني بسبب الشمس، لكن نردنا حسبها مبتهجة ملونة، كبستان تفتحت زهراته المتنوعة لتوّها.
شعر، للمرة الأولى أيضًا، بالسعادة والأمل.

حين ردّه الرجل إلى الطاولة، خُيّل إليه أنها بيئة جديدة كليًا. رحّبَ الخشب الناعم بأوجهه المتقابلة بحرارة زاددت من اغتباطه. ابتسم له زميله - نردٌ متواضعٌ آخر- مشيرًا إلى خدش صغير في إحدى حوافه.  انتبه زهرنا إلى مصدر وجعه... لم يحزن، بل قنع بخبرته الجديدة بما فيها من شعور بالأسى.
لحظاته المعدودة خارج المألوف أثقلته بتجارب ومشاعر متضاربة تغطيها لذة... جعلته مغرمًا بعبئه الجديد.
لم يعرف زهر النرد البرئ أن القدر لن يكتب له زيارة العالم مرة أخرى...

وفيما تلى ذلك اليوم الاستثنائي في حياة زهرنا المحبوب، وإلى أن ابتلعه أحد الأطفال المشاغبين، لم يمسكه شخص، إلا وتيقن تمامًا من أنه يريد أن يهرب.