الأربعاء، 3 أغسطس 2022

13

كنت في الثالثة عشر، ونعتتني إحداهن بال "عروسة".. نعم، شعرت بالاهانة. رغم أن الفتيات في تلك السن يحلمن بمساحيق التجميل، برموش أطول وشفاه أكبر، وبرضع وأطفال بخدود كبيرة، لم أشاركهن نفس الشغف.
في الثالثة عشر، لاحظت نساء العائلة أن جسدي بدأ يتغير، ببطء غير مقلق، ربما هذا التمهل هو ما ساعدني على تقبل جسدي الجديد. ولكن هؤلاء النسوة افترضن أن "خراط البنات" لن يطيل المكوث، سينجز مهمته بسرعة وفي نطاق المسموح به، وأن تحفته الفنية لن تتغير... أبدًا.
في العشرين، خرجت التحفة الرخامية عن قالبها، وهلع الجميع أما مؤخرتي المتوسطة  - الكبيرة الحجم بالمقارنة بباقي العائلة.
استغرق الأمر بضع زيارات، أي أسابيع، حتى تستوعب كل واحدة منهم أنني مازلت أكبر. تعجبهن أمرضني، فقد تم تلقيني أن الفتيات كن يتزوجن عند الخامسة عشر في المتوسط. ألا يجب على الزواج أن يتوج نهاية رحلة النضوج؟
تخيلت نفسي متزوجةً لأحد الرجال العاديين، متوسط الثقافة والذكاء، ...
يستيقظ زوجي "البلدي" يوماً ما ليجد أن حجمي تغير. هل يسخر مني؟ يطلقني؟ يفرح؟ أيتهمني أنني أهملت حبوب منع الحمل؟ يعتب على إهمالي وترهلي؟
حين لاحظت أمي التغيير، رافق ذلك اكتشافات أخرى...
مواعيد دورتي الشهرية أخذت تتأرجح في  مد وجزر حتى استقرت في منتصف العشرينات. اخشوشن شعري، تذبذبت شخصيتي حتى استقرت على أبعد نقطة مما ارتأته هي لي.
وإن كانت المسألة الأخيرة لا علاقة لها بالسن، فما اعتبرته أنا " نضوج وحب للذات" حسبته هي "مسخرة"
لم تعتد أمي على منظر المؤخرات الكبيرة: عندما تمشي في الشارع، تغض بصرها عن السيدات " المليانة". نقطن في مكان يعج بصاحبات الوزن الثقيل والتضاريس ذات الحضور القوي. السيدات هنا لا يتحدثن، بل تسمع صوت أثدائهن؛ تفرض وجودها  وبالتالي وجود صاحباتها في المكان. تحيطني بضخامتهن،- أنا الطفلة قصيرة القامة-، ولسبب تافه أحسبهن أكثر أمومة وحكمة، واستسلم لما يقلن. تفاهة مؤقتة.
امي تتحاشاهن، وتلقي بنكات عن أجسادهن بلا حساب.
وكنت أضحك، حتى اختطفتني هرموناتي لحساب الفريق الآخر.
عند شراء الملابس، تنبهني على وجوب انتقاء ما يخفي الزائر الجديد .. ولا اعرف كيف!
تمنيت أن يكون مجرد زائر، لكنه لم يرحل بالتمارين ولا فقدان الوزن. اشترى بيتاً، ولن يرحل
 ينتهي بي الحال بملابس وسعها كالجلباب، داكنة اغلب الاحيان.
تمسك أمي قطعة الملابس وتشد وتشد... للأجناب والأسفل، تحاول صنع اكبر مساحة ممكنة لخلق فجوة تكفي جزءا مني.
تنظر إلى خصري بتأفف، وعدم رضا، وخجل. تسأل النسوة..و"طلعت لمين دي؟"
فتجيب بسرعة: مش أنا!
عندما نسير سويًا، تنظر لطرف بلوزتي بصرامة، علها تستحي، وتطول من تلقاء نفسها.
وإن طالت، لن تخفي أن ما تحته يحتل مساحته وزيادة.
لم أعد أمنع نفسي من النظر إالى أجساد النساء والفتيات خارج نطاق العائلة، التي اكتشفت أنها لا تمثل الكل. فلا الجميع يمتلك أجسادهن التي برمها الفقر وسوء التغذية، ولا الجميع يشعرن بالعار كما يفعلن.

إحداهن تملك أثداء بارزة، ترتدي حمالة صدر ضيقة.. تتحمل الألم ويتسلخ جلدها تحت سلك الحمالة لأجل لا شئ

أتأمل الرشيقات يسرن بخفة، وصاحبات الأثداء والأرداف قوية الحضور يتهادين بخفة  وبمنتهى الليونة، كالموج... تتحرك دهون أجسادهن الموزعة بحكمة الخالق في تناغم.

بالتدريج، لم تعد مؤخرتي مجرد ذيل ثقيل أتأفف منه. أصبحت أخف.

في مواجهة تعجم نسوة العائلة الدائم من فخذاي القويين مع أسف ظهري المدور، صارحني صديق بأن هيئتي توحي له بأنني خلقت بحوض واسع: سأصبح أماً لأطفال أصحاء.

مرت السنوات ومازال جسدي يتغير. ومع الدهون والشيب والتجاعيد، وتراكمت مع الوقت  ندوب وحروق بسبب الطبخ والحياة بشكل عام.

تعلمت أن نظرة أمي ونسوة العائلة لي ولأنفسهن أحادية، فرغم تنويعات أجسادهن، إلا أنهن حين ينظرن إلى المرآة، لا يرين أنفسهن.

الأربعاء، 11 مايو 2022

الركلة

 ركل “علي” الكرة بقوة إلى الأعلى، بعد أن بصاها له "محمد"، فأخذت تدور وتدور في الهواء، تلاحقها أعين الصبية، متمنين وداعين أن تكمل قوسها وتهبط إلى أرض الشارع.

مرت اللحظات كالسنوات؛ تتمطى فيها الكرة مستمتعة بعذوبة شمس الخريف أكثر من استمتاع الأولاد بها؛ شغلهم الحدث الجلل وضرب الخوف أعماق أنفسهم. حدث المكروه؛ رسَت الكرة في شرفة الحاج علاء، الذي يخشى عليه القليل ويخشى منه الأغلبية؛ فالحاج مسن كمعبد، ويخاف جيرانه الطيبون من أن يختاره الموت، ويسافر عقله الراجح بلا رجعة. الحاج قاسٍ على الصبية المتخاذلين ذي الآباء المتهاونين. فعندما يكسر أحدهم شيئاً ما في شرفة أو سيارة أو بيت، يسارع أولاء فيدفعون بمحافظهم وبعلب هداياهم وسجائرهم، مستبدلين بها ذكريات وأحداث نُقِشَت على الممتلكات المكسورة.

 أصدرت الكرة في هبوطها ثلاث خبطات مدوية على الأرضية، تضخم أثرها بفعل هلع الصغار. لم يصاحبها صوت أو نفس؛ فقد كان عليهم أن يرهفوا السمع، ربما حطمت الكرة غرضاً ما.

 لم تفعل.

 تنفسوا الصعداء، بقي الجزء الأصعب: اختيار تعيس الحظ، الذي سيقوم باسترجاع الكرة من الحاج علاء. انها الظهيرة، موعد قيلولته الثابتة. أيمكنهم إيقاظه بالعويل المتواصل؟ سيكون عليهم الاستعداد للعواقب.

 حان الوقت لاختيار أحدهم للمهمة الشاقة...

 نظر الأولاد إلى “علي” المتباهي بركلاته القوية بالمقارنة بسنه وبنيته الضعيفة. هو من دفع بها هناك، إذًا فعليه أن يعيدها. وإلا، فسيدفع ثمن الكرة لمعتز.. صاحب أغنية "أنا بقالي شهرين بحوش للكورة الكفر دي" المعهودة.

قَبِلَ بالأمر الواقع، فنظرات الأصدقاء جعلته يشعر بالمسئولية والذنب. وأيضاً، هو لا يملك ثمن الكرة ولن ينتظره أحد حتى يتدخر، لن يعطيه أبواه شيئا وسَيُعَاقَب...

شهر كامل بلا لعب في الشارع...

أخذ علي نفسًا عميقاً يسكن به ضربات قلبه الفزعة.

 تحسس طريقه في مدخل العمارة المظلم، ضوء النهار عطل عينيه مؤقتًا عن وظيفتيهما، دارت رأسه وطنت أذنيه. تأمل السلم كأنما يعد درجاته، لكنه لم يعدها، تمنى فقط لو تحركت تلقائياً وحملته إلى شقة الحاج المرعب دون جهد منه.

 سمع خطوات واثقة خلفه كان محصل فواتير، بحقيبته الصغيرة وكومة الأوراق القصيرة في يديه، يغش منها أسماء السكان، وبجيب قميصه الحامل لثلاث اقلام زرقاء.

 كانت صدفة منقذة لعلي، لا لحدوثها، بل لبساطتها وغبائها. ليس عليه أن يقوم بأي جهد زائد، سيتبع الرجل ويصعد السلم وراءه كما كان سيفعل أصلاً. لن يواجه غضب وتقريع عم علاء وحده؛ فإن اختبأ خلف الغريب، ربما يشعر الحاج بالحرج من كشف ألوانه العنيفة الكريهة.

 تتبع علي خطوات الموظف الواثقة على السلم الضيق، بعد درجتين لاحظ الرجل الولد الملاصق له كظله والتفت إليه أكثر من مرة مستغرباً، لم يسأل. حين وصل الرجل إلى الطابق المنشود، تهللت أسارير علي، حتى تخطى الرجل الهدف وتوجه إلى الشقة المقابلة...

 اضطربت مفاصل علي، ما هذا العبث؟! ألن يأخذ منه الحساب؟

 استلم الموظف المال وترقى درجات قليلة عندما اوقفه صوت صدر من الصبي، بداية جملة غير مفهومة. “ كتة" كما يسميها البعض. وجده ينظر إلبيه بعينين واسعتين مستفهمتين. استفزته نظراته، فهذا الحقير ليس بولي نعمته، يذكره بانتظار رئيسه لتقارير آخر الشهر. “روح لأبوك يا ولد!” “ صاح الموظف بقوة مصدرها هو تذكر سريع لكل مرة نهره المدير بنظره كهذه بلا كلام بينما لم يكن مستعدا لإرضائه.

 ثبتت الصرخة عليًا في مكانه كالمسمار، استأنف الرجل رحلته إلى الطابق الأعلى. جلس علي متربعاً على البلاط. أخذ يحصي المرات التي يقول فيها الموظف “كهرباء” كي يستنتج موقعه، مرت نصف ساعة أو أكثر. فالأطفال ليسوا جيدين في تخمين الوقت. عاد المحصل أخيراً وتوقف هذه المرة عند شقة الحاج علاء. وبعد معاناة، شهد علي لحظة خلاصه، ودق المحصل الجرس، في علبته القديمه، وكُبسه المصفر المتنافي مع دهان الحائط الجديد حوله.

 بعد هنيهة، استجمع فيها الرجل شتات أوراقه مستعدًا لإنهاء آخر معاملة، فتح الحاج الباب، مرتدرياً جلباب بيتي ، ووجهه يحمل علامات النوم، وعلى محياه علامات الوضوء الحديث. أنزل كمه وهو يرحب بالمحصل المحترم ...

وفهم علي السر...

 وحسدهم على دهائهم.

"المحصل يؤجل زيارته للحاج لأنه مقيل! والله!"

طلب علي الكرة، بجملة مقتضبة وصوت مهزوز، رأى علي يد الحاج تمتد إلى أذنه فكادت تتوقف أنفاسه، لابد من ردة فعل من الحاج..

 قرصة ودن هذه المرة.

هانت التجربة المريرة على علي حين أمسك الكرة بيديه، واتنقلت رائحة البلاستيك الممزروجة بتراب الشارع العفن إلى منخريه. هرول علي وكاد أن يكسر عظامه على السلم عدة مرات. عاد إلى أصدقائه، ناظرًا إليهم بانتصار. لم يحفل بذلك أحد، رحبوا بالكرة لا بانجازه.

 لاحقاً، و كلما سيمر علي بموقف شبيه في الحسم والصعوبة، سيسترجع موقف الكرة وشعوره المتقلب وقتها. وستصبح حكاية الكرة التافهة تلك، مرجعاً لعلي عن كيف يكون القلق والاضطراب.

الثلاثاء، 26 أبريل 2022

زفرة - خاطرة 8


إن الهواية التي تتخذها كوظيفة تصير هويتك، فتملأ وقتك ولا تترك مجالًا في ذهنك لغيرها من الأفكار والمعضلات، ثم بمرور الوقت تصبح روتينية ويختلط عليك الأمر. وتقوم بها في النهاية لأجل الواجب والرزق.
تشعر بالملل... تأخذ إجازة.. يزداد بؤسك كلما تذكرت المسئولية. أتتركها؟ هذا جنون! ماذا عساك تكون إذا أقلعت عنها؟
ما هو العلاج في حالة إصابة رئتيك بمرض ما، أصبحت بسببه لا تستطع التنفس... فقدت الزفرات آليتها وعليك أن تسحب الكمية المطلوبة من الهواء متعمدًا كل ثلاث أو أربع ثوان؟ إذا غفلت عن مرة اختنق دماغك وفارقت الحياة!
أنت لم تفقد شغفك بعد، تحتاج إلى البحث عن حل ما... وفي كل الأحوال، عليك بالمثابرة وحث نفسك على الاستمرار...
من الخطر أن تتنصل من ذاتك. لن تفقد حياتك بالطبع، لكنها ستفقد ألوانها وحيويتها وتئول إلى الجمود، فتتلف روحك كشريط فيلم يحترق.. يصدر أصواتًا غريبة لا معنى أو غرض لهل. لن تقدم للعالم نفعًا أو ضرًا... سينساك وأنت حي، وحينها ستموت تمامًا، بلا أثرٍ أو رماد.