الأربعاء، 11 مايو 2022

الركلة

 ركل “علي” الكرة بقوة إلى الأعلى، بعد أن بصاها له "محمد"، فأخذت تدور وتدور في الهواء، تلاحقها أعين الصبية، متمنين وداعين أن تكمل قوسها وتهبط إلى أرض الشارع.

مرت اللحظات كالسنوات؛ تتمطى فيها الكرة مستمتعة بعذوبة شمس الخريف أكثر من استمتاع الأولاد بها؛ شغلهم الحدث الجلل وضرب الخوف أعماق أنفسهم. حدث المكروه؛ رسَت الكرة في شرفة الحاج علاء، الذي يخشى عليه القليل ويخشى منه الأغلبية؛ فالحاج مسن كمعبد، ويخاف جيرانه الطيبون من أن يختاره الموت، ويسافر عقله الراجح بلا رجعة. الحاج قاسٍ على الصبية المتخاذلين ذي الآباء المتهاونين. فعندما يكسر أحدهم شيئاً ما في شرفة أو سيارة أو بيت، يسارع أولاء فيدفعون بمحافظهم وبعلب هداياهم وسجائرهم، مستبدلين بها ذكريات وأحداث نُقِشَت على الممتلكات المكسورة.

 أصدرت الكرة في هبوطها ثلاث خبطات مدوية على الأرضية، تضخم أثرها بفعل هلع الصغار. لم يصاحبها صوت أو نفس؛ فقد كان عليهم أن يرهفوا السمع، ربما حطمت الكرة غرضاً ما.

 لم تفعل.

 تنفسوا الصعداء، بقي الجزء الأصعب: اختيار تعيس الحظ، الذي سيقوم باسترجاع الكرة من الحاج علاء. انها الظهيرة، موعد قيلولته الثابتة. أيمكنهم إيقاظه بالعويل المتواصل؟ سيكون عليهم الاستعداد للعواقب.

 حان الوقت لاختيار أحدهم للمهمة الشاقة...

 نظر الأولاد إلى “علي” المتباهي بركلاته القوية بالمقارنة بسنه وبنيته الضعيفة. هو من دفع بها هناك، إذًا فعليه أن يعيدها. وإلا، فسيدفع ثمن الكرة لمعتز.. صاحب أغنية "أنا بقالي شهرين بحوش للكورة الكفر دي" المعهودة.

قَبِلَ بالأمر الواقع، فنظرات الأصدقاء جعلته يشعر بالمسئولية والذنب. وأيضاً، هو لا يملك ثمن الكرة ولن ينتظره أحد حتى يتدخر، لن يعطيه أبواه شيئا وسَيُعَاقَب...

شهر كامل بلا لعب في الشارع...

أخذ علي نفسًا عميقاً يسكن به ضربات قلبه الفزعة.

 تحسس طريقه في مدخل العمارة المظلم، ضوء النهار عطل عينيه مؤقتًا عن وظيفتيهما، دارت رأسه وطنت أذنيه. تأمل السلم كأنما يعد درجاته، لكنه لم يعدها، تمنى فقط لو تحركت تلقائياً وحملته إلى شقة الحاج المرعب دون جهد منه.

 سمع خطوات واثقة خلفه كان محصل فواتير، بحقيبته الصغيرة وكومة الأوراق القصيرة في يديه، يغش منها أسماء السكان، وبجيب قميصه الحامل لثلاث اقلام زرقاء.

 كانت صدفة منقذة لعلي، لا لحدوثها، بل لبساطتها وغبائها. ليس عليه أن يقوم بأي جهد زائد، سيتبع الرجل ويصعد السلم وراءه كما كان سيفعل أصلاً. لن يواجه غضب وتقريع عم علاء وحده؛ فإن اختبأ خلف الغريب، ربما يشعر الحاج بالحرج من كشف ألوانه العنيفة الكريهة.

 تتبع علي خطوات الموظف الواثقة على السلم الضيق، بعد درجتين لاحظ الرجل الولد الملاصق له كظله والتفت إليه أكثر من مرة مستغرباً، لم يسأل. حين وصل الرجل إلى الطابق المنشود، تهللت أسارير علي، حتى تخطى الرجل الهدف وتوجه إلى الشقة المقابلة...

 اضطربت مفاصل علي، ما هذا العبث؟! ألن يأخذ منه الحساب؟

 استلم الموظف المال وترقى درجات قليلة عندما اوقفه صوت صدر من الصبي، بداية جملة غير مفهومة. “ كتة" كما يسميها البعض. وجده ينظر إلبيه بعينين واسعتين مستفهمتين. استفزته نظراته، فهذا الحقير ليس بولي نعمته، يذكره بانتظار رئيسه لتقارير آخر الشهر. “روح لأبوك يا ولد!” “ صاح الموظف بقوة مصدرها هو تذكر سريع لكل مرة نهره المدير بنظره كهذه بلا كلام بينما لم يكن مستعدا لإرضائه.

 ثبتت الصرخة عليًا في مكانه كالمسمار، استأنف الرجل رحلته إلى الطابق الأعلى. جلس علي متربعاً على البلاط. أخذ يحصي المرات التي يقول فيها الموظف “كهرباء” كي يستنتج موقعه، مرت نصف ساعة أو أكثر. فالأطفال ليسوا جيدين في تخمين الوقت. عاد المحصل أخيراً وتوقف هذه المرة عند شقة الحاج علاء. وبعد معاناة، شهد علي لحظة خلاصه، ودق المحصل الجرس، في علبته القديمه، وكُبسه المصفر المتنافي مع دهان الحائط الجديد حوله.

 بعد هنيهة، استجمع فيها الرجل شتات أوراقه مستعدًا لإنهاء آخر معاملة، فتح الحاج الباب، مرتدرياً جلباب بيتي ، ووجهه يحمل علامات النوم، وعلى محياه علامات الوضوء الحديث. أنزل كمه وهو يرحب بالمحصل المحترم ...

وفهم علي السر...

 وحسدهم على دهائهم.

"المحصل يؤجل زيارته للحاج لأنه مقيل! والله!"

طلب علي الكرة، بجملة مقتضبة وصوت مهزوز، رأى علي يد الحاج تمتد إلى أذنه فكادت تتوقف أنفاسه، لابد من ردة فعل من الحاج..

 قرصة ودن هذه المرة.

هانت التجربة المريرة على علي حين أمسك الكرة بيديه، واتنقلت رائحة البلاستيك الممزروجة بتراب الشارع العفن إلى منخريه. هرول علي وكاد أن يكسر عظامه على السلم عدة مرات. عاد إلى أصدقائه، ناظرًا إليهم بانتصار. لم يحفل بذلك أحد، رحبوا بالكرة لا بانجازه.

 لاحقاً، و كلما سيمر علي بموقف شبيه في الحسم والصعوبة، سيسترجع موقف الكرة وشعوره المتقلب وقتها. وستصبح حكاية الكرة التافهة تلك، مرجعاً لعلي عن كيف يكون القلق والاضطراب.