الجمعة، 27 ديسمبر 2019

المسمار

كان الفتى يلهو قرب مدخل الشقة مع أبناء الجيران حين سمعت والدته أحدهم يصرخ، فهرعت إليهم تسأل بقلق: "ماذا حدث؟"
أشار صبيها ذو الوجه المحتقن والمبتل بالدموع إلى قدمه...
وجدت مسمارًا قذرًا وقد إنغرس في أسفلها حتى آخره، وكمية من الدماء... أرعبتها...
عادت للداخل وارتدت حجابها بإهمال استفز شعراتها الرمادية، فخرجت منه بوقاحة... واستلت مفتاحها وهاتفها، وركضت إلى الشارع.
لفتت رثاثة حالها  الغير معتادة انتباه حارس العقار، فلحق بها علّه يساعدها... وينتفع بشيء من البقشيش لاحقًا.
أمرته بصوت مرتجف: "جِد لي سيارة أجرة، بسرعة!"
هاتفت زوجها، فسبقها إلى المشفى.
استلزم الأمر تدخلًا جراحياً وحقنة "تيتانوس"... ومشاحنة مدوية بين الزوجين.
*****

انتصب ساق المسمار في الهواء شامخًا متباهيًا بسنه الحاد، متحديًا عوامل الرطوبة، بينما انغرس الرأس في حفنة من التراب المهمل على الدرج.
وفجأة، حُشر بطريقة ما في نسيج رطب، وأظلمت الدنيا، وما هي إلا لحظات حتى بدأت جسيمات متناهية الصغر تتقافز حوله وتعبث بذرات معدنه العتيق.
طفق النظام المتكامل الغريب في ذلك المكان يثور بعنف، مطالباً إياه بالتقهقر مهاجمًا صدأه والميكروبات القاتلة العالقة به.
كاد أن يستغيث، ثم فطن إلى أنه هو... مصدر الهلع.
وشعر بالفخر!
" ما أعظم شأني ها هنا!"
ذاب أحمره فيما حوله، أطلق العنان لسمومه لتتوغل في اللحم... كجنود الإغريق في طروادة.

لم يطل نعيم المسمار، فبعد سويعات، أحس بآلة ما تسحبه للخارج...
رغم تماسكه وعناده، فقد توازنه...
 طُرد من مملكته المؤقتة، ولحقت به دفقة من سائل دافئ لامع.
صدمته الأضواء من جديد، وبددت البرودة  ما شيده من عزة نفس وكبرياء. وأُلقي في وعاء ما، ثم حُمل إلى مثواه الأخير... متخاذلاً.
وأثناء رحلته، سمع صياحًا ونحيبًا
انهمك الزوج في إتهام الأم بالإهمال، فاعتذرت مرتعدة وأخذت تعلل انشغالها... لكنه استمر في ذبحها وغمرها بوابل من أبشع الألفاظ. ولم يتمكن أحد من تهدئته لإخباره أن حالة ولده مستقرة...
تدخل المصلحون، تقاطعت عبارات كــ "حصل خير"... و"احمدوا الله"... و"عفا الله عما سلف" مع سباب الرجل...
ود المسمار لو يتقافز فرحًا وسط القطن الملوث والدماء في الصحن، فكر:"أنا صاحب الفضل في هذا المشهد الملحمي رغم ضآلة حجمي!"...
ودون ذرة من تأنيب الضمير لما سببه من ألم ومتاعب – فذلك امتياز يخص الانسان وحده – تخللته النشوة... وأهمل الكون كل مهامه في سبيل المسمار الرفيع للحظات... قبل أن يُزَج به في محرقة المستشفى.



الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

خواطر 5 - لويس بريما


هناك أغنية قديمة للويس بريما – وآخرون في الواقع – تدعى "ليس لدي أحد", يؤكد فيها لويس أن لا أحد يهتم لأمره... وأنه حزين ووحيد... فالحياة تستمر بدونه...
يردد "ليس لدي أحد... أنا مجرد مغني..." بنبرة سكير يائس، فتضطرب أوتار نفسي...
أنا محاطة بالأصدقاء والأخيار، أصافح الناس وأمازحهم... أخوض المناقشات... استمع لمن قادته الأقدارإليّ، وأنتحب أنا أيضًا في حضرة أحدهم.
ثم  أعود إلى نقطة ما... أدرك فيها أنني بحاجة إلى شخص واحد - لا أعرف هويته- ، ليربت على كتفي، فيختفي هذا الغمام.
ورغم ملابسي الصوفية وأطرافي الدافئة، أشعر بالعري والبرد... والضآلة.
ما مصدر هذه العاصفة التي تدك عقلي كل خريف؟

حين بدأت حياتي الجامعية، حسبت أنني سأتحكم بحياتي وأحدد ما يمكن للظروف المحيطة أن تلحق بي من ضرر، لكني فشلت!
كيف لهبّة ريح أن تُحدث فيّ كل هذا الأثر؟
ليالٍ بلا نوم، أسابيع بلا صوت واحد...
ما هي الوسيلة التي تأقلم بها قدماء المبدعين مع وحدتهم المذكورة في أحاديثهم ومذكراتهم وسِيَرِهم؟ أهي قدرة خارقة؟ أيستطيع الانسان أن يستخرج العسل من نار تكوي قلبه؟!