السبت، 27 أبريل 2019

جسد

أرخيت ذراعيّ تمامًا بعد يومٍ من العمل المضنِ، أخذت أستشعر الدم يتدفق فيهما مكبرًا صوت نبضات قلبي...
غلبني النعاس، تقارب جفناي، ثم قطع انغلاقهما صوت همهمة... استفقت لبرهة...
"ءأنتِ بخير؟ لقد استُنفذتِ اليوم حقًا!"
"لا تقلق، أحتاج لبعض الراحة فقط..."
قلت "إنه الإرهاق"... اضطربت ذراعي اليمنى.
رغم غرابة الموقف لم استفق واستسلمت للنوم، فتسرب الهمس إلى أحلامي.
"أتذكرين شكلك؟"
"لا.. الفتاة لا تتحمل النظر إلى صورتها في المرآة، وحين تبدل ملابسها تبتعد عنها قدر المستطاع. ثم حل الشتاء، ولا أرَ نفسي إلا مغطاه بالملابس. ماذا عنك؟"
"لقد تدهور حالي، أهملتني الفتاة منذ حجبتني."
"لازلت طويلًا وجميلًا كما أنت..."
"أتمنى ذلك."
صمتت ذراعي اليمنى لبرهة ثم قالت بتردد :"علمت أنك تجعدت قليلًا؟"
"أعلم، صارت الفتاة تكرهني.."
"غير معقول!"
رد الشعر بحسرة: "أعتقد أنها ستقوم بقصي عما قريب..."
" لا يمكن أن ترتكب هذه الحماقة!"
" أنا قلق، إنها مراهقة عصبية قليلة الصبر، تقضي ليلتها في البكاء ونهارها في إخفاء عينيها. زاد وزنها وتدهورت، عقلانيتها في إجازة!"
" ياللهول.."

ساد الهدوء من جديد، وحل محله أزيز مكروه لأفكارهما...
ءأعيش تحت رحمة عواطفي حقًا؟
لم أتعمد إجهاد نفسي بالنحيب اليوم، بل انهمكت في العمل والمجهود حتى هدأت عواصف عقلي، وتصايحت عظامي وقسمات ظهري.

باغتني شعري: "أتساءل عم مدى حبها لنا وتقبلها لذاتها..."
"أتكره نفسها وهي بهذا اللطف؟ مزاياها واضحة كأشعة الشمس!"
"نعم، كأشعة الشمس في يوم غائم..."
"ماذا تقول؟!"
"ألا تلحظين حزنها؟"
"وما شأني أنا؟ أنا مجرد ذراع..."
"من الخطأ أن تنسحبي هكذا! هل أنتِ جرذ؟"
"إنني مجرد ذراع!"
"أعلم! ولكن ألم يمسّك حزنها مثلنا؟ وماذا عن سعادتها التي غمرتنا؟ كيف تنكرين تحطيم يأسها لك؟ وأملها لاذي أنعشك! وذلك اليوم المميز في سنتها الخامسة عشر، عندما أدركت شهوتها وصعدت إليكِ نشوتها؟! أنت متصلة بقلبها على الدوام!"
"لم أعد أحفل! فلتفعل بفؤادها ما تشاء! لن أسمح بأن يطولني انسداد رسغي أو جلطة طرفية جرّاء كآبتها!"

أحسست بشعري يتراجع وينبسط في استسلام على الوسادة، وبذراعي تتحول إلى هيكل متحجر.
لم أرغب في تغيير شكل شعري... سهوت عنه كثيرًا، لا أفهم سبب تلقيبه بتاج المرأة وزينتها، إنه متشابك متداخل منهك، يرمز فقط إلي عبثية الحياة وتعقيدها!
اغلقت عينيّ وتمنيت أن أختفي إلى الأبد... كبحت جماح أفكاري السامّة بصعوبة، ونمت.

الأحد، 7 أبريل 2019

غل؟


أرقد، أحاول ألا أنسى، أبقي عقلي مشغولاً وذهني مشحوذًا... أنا هنا منذ شهرين تقريبًا، لا أرى إلا الفئران والحشرات...
أضم ركبتي إلى جذعي حتى تتهاون معدتي الفارغة قليلًا.

أذكرأني شددت قوامي عن آخره يومها رغم آلام ظهري، و تظاهرت ابتسامتي بالثقة حتى تعينني على إخفاء أمارات السهر والوهن...
وقفت وسط الجمع أنادي بضرورة محاربة الجماعات المتطرفة المسلحة، وعنفت الحاكم بشدة لتهاونه مع مجرمين اختطفوا مائة أو أكثر من الفتيات...

يقع جُل اللوم عليه... سمح للمغالين في دينهم بالانتشار في ربوع الدولة، وببث أفكارهم ومعتقداتهم... ومنها ضرورة منع الفتيات من التعليم!
ثم غض الطرف عن خططهم الراسخة لتسليح أنفسهم، متعللاً بانشغاله بالخطر المتلصص والأذرع الخارجية والأجنحة البركانية...إلخ. أبله غبي!

عندما وصلنا الخبر كنت أزور إحدى قريباتي... بكينا. كيف استطاعوا سبي هذه البراءة؟

أتأمل الأحداث وأتفكر... هل من السهل على شخصٍ بالغ أن يؤمن بهذه الهشاشة؟ وأنى لهم أن يسهوا عن الحقيقة القائلة أن فرار الدين من المنابر إلى ساحات المعارك هو إفساد؟ كيف يسمح رجل عاقل لنفسه أن يسجد – مثلًا- للحم جرذ متعفن، فيقبل أظفاره ويذرف الدمع على فرائه القذر؟

بُح صوتي... عدت إلى المنزل... استلقيت على سريري، شعرت أني أغرق في أفكاري وحدي. ثم انتشلني زوجي بكوب من الشاي الأخضر. سألته: ما سر هذا الاهتمام؟
"الفضل يعود إليكِ في عدم إنجابنا أطفالًا..."
ادهشني رضاه عن فكرة ظلّت تؤرقه لعشر سنوات، بينما دافعت عنها أنا بشراسة؛ فقد أدركت آنفًا أن الحياة بشكل طبيعي وحميم في بلادنا شبه مستحيل، فأطفأت جذوة الرغبة والأمومة داخلي مبكرًا.

فلنتخيل للحظة أنني استسلمت لإلحاحه! لكانت لي الآن فتاة صغيرة جميلة محتجزة في الجحيم!

اغتممت لحال صديقاتي، وعاونتهم على البحث بقدر ما سمحن لي...
كُن يتأففن مني، اتهمنني بالتصنع وإدّعاء المثالية لأنني في الواقع لا يوجد لدي دافعٌ للحزن والانشغال مثلهن. استعصى عليّ الفهم، ووجب علي الانسحاب...

باغتت الشرطة منزلي بعدها، اتُهِمت مع آخرين بتحريض الشعب على الثورة، ومحاولة قلب نظام الحكم!
قامت الدنيا، وهاجت الجموع، طالب الناس بالإفراج عن الكثير من الأسماء، وأُطلق سراح العديد منهم...
حين جاء زوجي لزيارتي استشعرت فيه الحزن والضعف، ولم أكن أتوقع ذلك.
سألته، فأجابني بأن السيدات غاضبات، ويحمل رجالهن الكثير من الشهادات والأقاويل المنسوبة إليّ... سيلصقون هذه التهمة، وغيرها، بي.
أخبر جرذٌ ما المحققين أنني اتصلت بزعيم إحدى العصابات، وقمت بالإيقاع بالأطفال حقدًا على أمهاتهن الولّادات!
اتهمني البعض بانعدام الأخلاق، والعقم ، واستغلال الحدث لإغاظتهن...
زعم آخرون: "إنها تشجع وأد البنات... وأكل الحوامل للطين... وكل فعل يمكن له أن يُفشِل ولادة أو يُمرِض طفلًا..."

إن خرجت... سأجدني غارقة في بحر من العار والشؤم والهراء!
لا أستطيع التنفس، رؤيتي غير واضحة. أردت فقط أن أحمي نفسي، ألا أظلم أو أُظلَم، وفشلت...
وراء هذا الباب لا يوجد إلا الحقد والغل.

أتمنى الآن أن تبتعد الحشرات القذرة عني...
أن تخفت قرقرة أمعائي لدقيقة واحدة...
أن تتواءم فقرات ظهري مع تعرجات الأرضية الخشنة...
أرغب في النوم فقط حتى تأتيني النهاية.

الباب

مرت فترة…
أترك بابي مورابًا… كوسيلة لاستقطاب انهياري…
أنا ألمحه من فتحة الباب يتبختر قادمًا، مازال نقطة في فضائي… لكنه يكبر مقتربًا.
تكورت في مكاني بينما يتسرب إلي الحسيس ويتهادي… تحترق أفكاري ببطء… تلك الضوضاء المتصلة المنفصلة… العشوائية في انتظامها، تنزل على قلبي السكينة كموسيقى.
يمتعني منظر اللهب المتراقص.. فأدمنه.
سمحت للفراغ بأن يلتهم روحي. بدأ العدم بداخلي كنفق صغير، ثم أخذ يتوسع متمهلًا حتى تلاشيت تمامًا.
أوراق العمل متناثرة… غرفتي قذرة… شعري الأشعث يتساقط كفراء قط مريض… دمر الربيع قدرتي على التنفس، وعيناي تحملان دموعًا لا علاقة لها بالبكاء.
أنا كتلة من الفوضى على هيئة انسان…
كيف وصلت إلى هذه الدرجة من الإرهاق؟
عقلي لم ينضج بعد بشكل يسمح له بتحمل كل هذا الصراع…
يخالف المألوف… فيراكم رماده داخل جمجمتي، يحتفظ بحرارته وآثار حروب اقتحم ساحاتها عنوة… في غفلة مني. وتتحرك أشلاؤه كقهوة تتعمد أن تفور.
لا أحظى بلحظات من صفاء الذهن أبدًا…
عالمي هو قطرة ماء واحدة تحملها الريح… لا أستطيع الفرار، لا يمكنني التحرر أو الاستقرار على أرض ما…
إذًا… فلتقلبني الأقدار كيف تشاء.
سيظل الباب على حاله… يسامرني بشيء من النسيم المتلصص -فيما يبدو- إلى الأبد.