الأحد، 3 يناير 2021

مرايا

قاده العالم المشرف على التجربة إلى القاعة المظلمة، وتركه هناك مرتبكاً وحيداً لا يعلم ماذا يصنع، حتى دوى صوته من أحد الأركان: "هل أنت جاهز؟"

صاح "نعم!" رغم قلقه، وعدم تأكده من ماهية ما يجب أن يكون "جاهزاً" له.

أشعل المشرفون مصدر الإضاءة الوحيد... الخافت، فانعكس نوره على مرايا عديدة متقابلة تملأ المكان.

سيمكث الشخص موضع التجربة هنا أسبوعاً، محاطاً بصوره من كل إتجاه.

سيراقب المشرفون تفاعله مع هذه القاعة الضخمة المثيرة للجنون...


اليوم الأول:

أخذ يتجول مستكشفاً...

سمع ناقوساً كالإنذار، تبعه تنبيه بموعد الفطور. عاد أدراجه بشق الأنفس... اضطرب وتعرق، عبثت انعكاساته التي عجز عن عدّها بعقله، كلما التقت عيناه بعيّني خياله، نظر له الأخير محتاراً: هل أنت واثق من صحة هذا الإتجاه؟

تكرر الأمر وقت الغداء والعشاء.

ما أذهله حقًا هو الحمّام؛ فحوائطه وسقفه وبابه مرايا، وصعقته فكرة أنه سيشاهد نفسه - مضطراً- بينما يقضي حاجته، فأغمض عينيه ومضى فيما يفعل.


اليوم الثاني:

استثمره في دراسة المرايا، واكتشف اختلافات طفيفة فيما بينها.

"ليست متقنة الصنع." همس لنفسه.

أمعن النظر في جسده ووجهه، لاحظ ندوباً وترهلات لطالما غفل عنها، غمره الامتنان لخوضه هذه التجربة، إذ تمنح له وقتاً كافياً ليتأمل نفسه ويواجهها، ويتقبلها.


اليوم الثالث:

أُرسِلت له وجبات دسمة شهية متعته بالطاقة والسعادة، قام يتبختر بين المرايا ممازحاً ذاته المتجسدة أمامه. أخد يقلِّد عادل إمام وتوم كروز تزجيةً للوقت، ثم شرع يقلب في ذكرياته آملاً أن يجد حلاً لأزمات حياته المتشابهة.

ونام ملئ جفنيه..


اليوم الرابع:

أفاقته معدته المتألمة، وتساءل: أهذا صباح أم مساء؟

أغفي طويلاً؟

لم يعد يشعر بالوقت.

اشتدت الحرارة فاستنتج أن وقت الظهر أو ما يقاربه قد حلّ. 

وجبته التالية كانت كوباً من اللبن البارد وبعض البسكوت... وتذكر أنه أخبرهم عن حموضة معدته أثناء الفحص الطبي ضمن إجراءات ما قبل التجربة.

"أيقصدون العبث بجهازي الهضمي؟ أم ساعتي البيولوجية؟"

تساءل متفاخراً لاستخدامه لفظ "الساعة البيولوجية" الذي قرأه مؤخرًا في الجريدة.


اليوم الخامس:

تدهور مزاجه، فتيقن أن ساعته الداخلية تعطلت.

فقد قدراً كبيراً من طاقته، استسلم للملل.

استند على إحدى المرايا مواجهاً أخرى، اتقدت بداهله جذوة غرور صغيرة جراء تقبله الحديت لشكله وبطنه وذراعيه الرفيعتين. وهذا ليس تصالحاً مع الذات؛ لقد حُشر هنا وحده، لا يوجد من يقارنه بابن الجيران أو الممثل الفلاني... وصوره المتقابلة المتكررة تبعث إشارات متلاحقة - لا يعيها - لدماغه؛ فيمجدها ويعبدها.

تجرد من ملابسه... وأقتنع أن كل سنتيمتر من جسده جميل.


لم ينم تلك الليلة.


اليوم السادس:

عيناه مفتوحتان، محمرتان...

مَلّ المرايا، والإضاءة التي لا تتغير، وفكر: "ما هذا الهراء؟! لماذا أحشر نفسي هنا؟"

تريض قليلاً، ثم زاد من شدة التمارين حتى يغفو.

واستيقظ ليجد أطباق الفطور فوق رأسه...

"يالكم من لطفاء!" قال بامتعاض.


سلموه ورقة استبيان، طُلِب منه فيها رأيه وما أحس به من تغيير في شخصيته وملاحظاته عن القاعة والطعام والخدمة... فأدرك أن هذا يومه الأخير.

سيخرج غداً ليواجه العالم من جديد...


تذكر أهله الغاضبين على الدوام، وحبيبته التي تنتظر أن يتقدم لخطبتها، ووالدها الذي يخشاه...

سيعود ليكون قلقاً صامتاً، منتقداً ذاته التي استطاع بشكل غير مسبوق، التصالح معها هُنا!


الخروج:

خطت قدماه أرض الشارع... عصرت الوحشة قلبه. 

لقد نسي هيئة الناس والأطفال، ولدهشته... لم يفتقدهم.

اتجه إلى متجر ليبتاع بعض الطعام، كعادته قبل التجربة.

اقترب من البائع ليعطيه المال، وفي اللحظة التي لمح فيها انعكاسه في عيني الرجل، انتشى ورقصت جوارحه! بُهِت وبوغت، وأخذ يماطل ويطيل الحديث، وكلما التفت البائع إلى زبائنه حاول شغله عنهم! مدفوعاً بالشك والحيطة، صاح في الفتى أن يبتعد.. لقد أفلت المسكين بأعجوبة!


استسلم... لكنه أمضى لياليه وأيامه لا يرى في البشر إلا عينين، ويشتاق إلى صورته... التي كانت تبدو في كل نظرة، مختلفة ونابضة بالحياة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق