ودع "م" أصدقاءه الرابضين في قهوة المحلاوي متجهاً إلى منزله بخطوات متكاسلة وبقلب آسف؛ فهو لا يريد ترك عبثهم.
صاح أحدهم: "لا تهدر هذه الليلة الصيفية بديعة! إنها الثانية عشر صباحًا!"
م: " أولئك الأوغاد يرفعون صحف الحضور في تمام الساعة الثامنة والنصف!"
أخذ يتمطى ويتأمل المارة في الطريق المزدحم، عابثاً مع السيدات منهم؛ فيسير ملاصقًا لهن، ويلقي لفظاً أو دعوة فجة لمرافقته إلى مكان ما... على سبيل التسلية بالطبع. وعندما تسبه إحداهن، ينظر إليها بتبجح، فهي غبية ثقيلة الظل، كيف لها ألا تقبل أن يصبح جسدها مادة للتندر والمزاح؟! هو يشفق على أمثالهن من الكئيبات قاتلات الدعابة!
إنها عادته؛ المشي ممل، ألا يستحق بعض الترفيه بعد يوم طويل؟
أحيانًا يتطاول "الترفيه"... فيمتد ليلمس هذه أو تلك، لتقف مصدومة... مبتورة اللسان... كفأر ميت..
وتغمره هو نشوة انتصار غير مبررة، لكنها مرتبطة بالعبث بأجساد الأخريات..
وصل "م" أخيرًا إلى شارعه الهادئ، المظلم نسبياً.
أولاد يلهوّن... وبقالة متواضعة مازال صاحبها مستيقظاً…
سُمِع صوت احتكاك معدني... فارتطام جسد "م" بالأرض. ثم شوهِد شخص ما يركض إلى الجهة الأخرى، حيث اختفى...
حققت الشرطة في الواقعة على مدار شهرين.
أشاد أهله وأصدقاءه بسلوكه، لا أعداء... لا مشاجرات. "م" قصير القامة، رفيع كعود قصب...ذو ملامح مسالمة، محبوب من الجميع.
لا يوجد شهود إلا الصبية والبائع، واتفقوا جميعاً: رجل طويل القامة، يرتدي بنطالاً أسود ومعطفاً قصيراً وقبعة صوفية، ضرب "م" بمفتاح إنجليزي، - أو"العصا الثقيلة التي يستخدمها الميكانيكي!" كما قال أحدهم – على رأسه، وهرب.
أضاف أصغرهم: "لا أعرف، بعض الفتيات طويلات كشجرة..."
تجاهلوه... واستمر التحقيق...
********
مرت نصف ساعة منذ أن وقفت الفتاة في ذلك الموضع...
ظهر "م"، فتبعته بخفة... نادت بخفوت: "لو سمحت!"
وقبل أن يلتفت بالكامل، هوت على رأسه بأداتها…
وهرعت عبر طرق ملتوية عائدة إلى منزلها، فتحت الباب، واندست إلى الداخل متسللة.
"أين كنتِ؟"
فزعت "ن" وأطلقت صرخة مكتومة. أشعلت الأم المصابيح.
رأت "ن" وجه أمها وهو يتبدل، من الشك والغضب إلى الفزع والرهبة... كادت تشعر بنيران أمها المحرقة وهي تندثر مخلفةً وراءها العدم...
ها هما الآن، يغرقان في الخوف معاً.
"ما بالك يا بنيتي؟ أنتِ ترتجفين!"
أحقًا ترتجف؟ إنها لا تشعر إلا بصخرة تشدها لأسفل... ستسقط... ستنهار..
غطتها ببطانية وأجلستها.
أخرجت "ن" المفتاح المدمى. "كلور... كلور" قالت لاهثة.
أخذت الأم منها دليل الإدانة، وهي تتأمل أظافرها الزرقاء وشحوبها... وسروالها المبتل.
ثم ألقت به أسفل الصنبور.
"ماذا فعلتِ؟ ردي!"
غابت "ن" عن الوعي لبرهة أنهتها أمها بغارة من الثلج والماء. وكف ذهنها عن الطنين واستقرت روحها، قصت ما حدث كمن يحكي حلماً.
لطمت الأم... تلعثمت وانتحبت، أرادت أن تصيح فتخرج تلك الغصة...
وضعت كلتا يديها على فمها مكرهة.
"لماذا؟
هل رآكِ؟
الكل يخضعن وينسوّن في النهاية! المُغتَصَبات يصمتن ويشعرن بالعار!
لماذا؟ لماذا؟!"
هل آذت الأم نفسها بينما تنوح؟ أرأت "ن" خدها الأيمن ينزف؟
هلوسة؟!
"لماذا!" صاحت "ن" بغضب... "هذا ليس بسؤال! ءأنتِ بلهاء؟ منذ استوقفني في ذلك الشارع، وأمسك بــ.. بصد..." لم تكمل كلمتها، لم تستطع، ودت لو تغرق في المقعد، أن تذوب في نسيجه كأنها لم تكن...
واصلت بعد برهة "منذ ذلك الحين وأنا أتألم، مازلت أشعر بأصابعه... وأراه في كل زاوية مظلمة!"
اختلطت كلماتها بالنشيج ..."أود لو اقتطع هذا الجزء من جسدي. لم أقدر أن أغفر لنفسي استسلامها! أنا لم أعد تلك الجثة! كان بإمكانه أن يفعل بي ما هو أبشع... أنقذني الله! أنقذني لأنتقم! أنقذني لأحيا هانئة البال مطمئنة النفس. لقد وجب عليّ قتله!"
ووقفت فجأة وهي تلهث وتبكي... ثم حاولت اللجوء إلى غرفتها، لكنها سقطت قبل أن تصل إليها.
********
قامت الأم بوضع الخطط ومحاكاة الموقف والمحادثات والتحقيق مراراً. قد تأتيهم الشرطة غدًا، أو بعد غد، أو ربما بعد شهر!
إنها مؤرقة... منهكة القوى، تنتظر وتترصد...
الأب لا يعرف، وأصيبت البنت بالحمى مدة أسبوع.
كلما حاولت الأم أن تملى عليها كذبة مشتركة – على سبيل الاحتياط - ، تحملق فيها وتضحك!
"ياللخيال الواسع يا أمي! ماذا حل بكِ؟ يالها من قصة!"
قصة!
اعتلَّ عقلها؟! نسيت؟!
ربما سَبَقَتْها بخطوة...إذاً فهي ممثلة ٌبارعة!
تضرعت إلى الله باكية…
"لن تدعني ابنتي أتعذب بتلك الذكرى الساحقة وحدي! لا! مستحيل!
أعِني يا رب...
الخطة إذًا أن نتناسى… حسن جداً… سامحنا يا الله.."
"سأتناسى."
حصل معاكي الموقف ده قبل كدة؟ هل اللي كتبتيه هو اللي نفسك تعمليه لو حصلت حاجة زي دي؟
ردحذفمش لازم اكون مريت بالحاجة عشان احسها واكتب عنها، في بيني وبين بطلة القصة - اللي ممكن تكون واقعية عادي- حاجات مشتركة دي ان احنا الاتنين بني ادمين وستات في مجتمع ظالم.
حذفوانا مش بقول ان القتل صح، بس هي قتلت، بس كدة.